في الحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من أزمة للغاز الطبيعي الذي سرعان ما تحول لسلاح اقتصادي فتاك، تدين أوروبا للنرويج.
النرويج الديمقراطية والموثوقة في إمدادات الغاز لأوروبا، صعدت للمساعدة في إبقاء الأضواء مضاءة في عواصم أوروبا بأكملها، وتعظيم الإنتاج حتى على حساب إنتاجها النفطي، لمحاولة إحلال طاقتها مكان الطاقة الروسية.
لكن مع استمرار ارتفاع سعر الغاز الطبيعي، أكثر من الضعف منذ أن بدأت روسيا في خنق الصادرات اعتبارا من يونيو/حزيران الماضي، فإن هناك اهتزازات قوية في صناعة الغاز.
إنتاج النرويج من الغاز
ومن المتوقع أن تنتج النرويج نحو 122 مليار متر مكعب من الغاز هذا العام، وفقا لتوقعات رسمية صدرت في مايو، بزيادة قدرها 8% عن عام 2021، وربما يتجاوز الرقم القياسي المسجل قبل خمس سنوات.
وتوقعت مديرية البترول النرويجية في يناير أن يصل إنتاج الغاز إلى 118 مليار متر مكعب في عام 2026، أو دون المستويات الحالية.
وفي يوليو الماضي، سجلت قيمة صادرات النرويج من الغاز الطبيعي مستوى قياسيا مرتفعا بلغ 128.4 مليار كرونة (13.26 مليار دولار)، مع زيادة الطلب عليه من أوروبا.
يقترح الأوروبيون على النرويج، أن الوقت قد حان لمطالبتها بفعل المزيد وإنتاج المزيد، ليس هذا فحسب، بل إن دولا أوروبية طالبت النرويج أن توافق على خفض السعر الذي تبيع به غازها لأسواق دول التكتل.
هذه المقترحات ليست رسمية حتى الآن، لمطالبة النرويج بخفض الأسعار وبذل الجهد لزيادة الإنتاج، بل إنها آراء يتم بثها بشكل خاص من قبل المديرين التنفيذيين في مجال النفط والغاز داخل دول التكتل.
حجة أوروبا
والحجة التي يتمسك بها الأوروبيون في هذه المقترحات هي كما يلي: "أوروبا، سواء أرادت الاعتراف بذلك أم لا، فإنها متورطة في حرب اقتصادية نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا".
إن التهديد الأكبر الذي يهدد دعم أوروبا لكييف، كما يفهمه فلاديمير بوتين جيدا، هو أن أزمة الطاقة تتحول إلى أزمة اقتصادية.. إذ لم تعد أسعار الغاز مرتفعة فحسب، بل أصبحت بسرعة أسلحة اقتصادية.
على الرغم من أن المكاسب المفاجئة من الغاز التي تجنيها النرويج تبدو مجدية اليوم، لكن دول أوروبية ترى أنه من المصالح الاستراتيجية لأوسلو، أن تقف لجوار التكتل بينما يسقطون في ركود عميق.
لكن بالأرقام، تذهب الغالبية العظمى من إمدادات الغاز في النرويج عبر خط أنابيب إلى أوروبا، وتشكل حوالي ربع إمدادات القارة؛ بالنسبة للمملكة المتحدة، فإن الغاز النرويجي يمثل 40% من الإمدادات.
توقعت الحكومة النرويجية في مايو/أيار الماضي أن تقترب عائداتها من النفط والغاز بالفعل من 100 مليار يورو هذا العام؛ في بلد يبلغ عدد سكانه 5.4 مليون شخص.
يشكل سعر هذا المبلغ حوالي 18000 يورو للفرد، أو أكثر من إجمالي الإنفاق العام لحكومة المملكة المتحدة للفرد في 2020/21.
وتضاعفت أسعار الغاز منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية بل حتى منذ الربع الثالث 2021، ويتم تداولها الآن بأكثر من عشرة أضعاف المستوى المتوسط الذي كانت عليه خلال العقد الماضي.
ومن الواضح أن النرويج لديها مجال مالي كبير؛ حيث كانت عائدات النفط والغاز أقل من 30 مليار يورو العام الماضي، لكن الحرب تضع البعض في صفوف الرابحين حتى وإن لم يريدوا ذلك حقا.
تجاريا، سيظل المستثمرون على المدى الطويل في قطاع الطاقة في النرويج، التي تحولت اليوم إلى البطل المنقذ لدول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في معركة الطاقة مع روسيا.
إلا أن فرضية خفض النرويج لأسعار الغاز بشكل كبير في أوروبا قد لا يكون لصالحها أو لصالح الصناعة، لأنها بذلك ستكون قد أنقذت دول التكتل على حساب مصالحها الاستراتيجية، بالوصول إلى أمان مالي من مبيعات الغاز.
الأسعار والمعضلة السياسية
بينما وفي حين أن أي تخفيض في السعر قد يكون من الصعب ابتلاعه سياسيا داخل النرويج، فإن أوسلو لديها مصلحة في المساهمة في استقرار الاقتصاد الأوروبي ودعم أوكرانيا.
وفي هذه الحالية، فإن الخيار الذي قد يكون منطقيا لكلا الطرفين، هو الالتزام بعقود طويلة الأجل بأسعار أقل بكثير من السعر الفوري اليوم، لكن أعلى بكثير من المتوسط التاريخي.
مثل هذا الحل لن يكون حلاً سحريًا؛ ومن المحتمل أن تظل أسعار سوق الغاز الأوروبية مرتفعة من أجل جذب الشحنات اللازمة من الغاز الطبيعي المسال بعيدا عن آسيا.
النرويج أيضًا أكثر عرضة للتقلبات في الاقتصاد العالمي، مدفوعة في جزء كبير منها بأسعار الطاقة المتقلبة هذا العام، مما قد يكون واضحا على الفور.
فقد خسر صندوق ثروتها السيادي البالغة قيمته 1.2 تريليون دولار، والذي يستثمر عائدات عقود من إنتاج النفط والغاز بنسبة 14.4% أو 174 مليار دولار، في النصف الأول من هذا العام, أكثر مما يمكن أن تحققه الحكومة من أسعار النفط والغاز القياسية.
تدرك النرويج أيضا التهديد الذي يتعرض له الطلب على الغاز على المدى الطويل من هذه الأزمة؛ إذ تعتمد رغبتها في بناء اقتصاد طاقة مستقبلي يعتمد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح البحرية والهيدروجين "الأزرق".