أثار تقرير صدر مطلع الشهر الجاري عن معهد واشنطن لدراسة الشرق الأدنى، بشأن الاقتصاد الفلسطيني والقطاع المصرفي المحلي، حالة من الجدل لدى البنوك العاملة في السوق المحلية.
ويبدو أن القطاع المصرفي المحلي، ومن خلفه سلطة النقد الفلسطينية، ترفض ما جاء في التقرير الدولي، نظرا لأن المصارف اجتازت أزمات حادة خلال سنوات عملها، لم تؤثر على وجودها داخل الأسواق.
تقرير معهد واشنطن، ركز على الإقراض الحكومي، في وقت تعاني السلطة الفلسطينية أزمة سيولة جعلتها عاجزة عن سداد رواتب كاملة للموظفين العموميين منذ نوفمبر/تشرين ثاني الماضي.
وبحسب بيانات سلطة النقد الفلسطينية، تبلغ قيمة القروض الممنوحة للحكومة حوالي 2.3 مليار دولار بنسبة 21% من إجمالي الائتمان و14% من ودائع العملاء.
** عودة للخلف
أشد أزمة واجهها القطاع المصرفي الفلسطيني، كانت خلال الاجتياح في انتفاضة الأقصى عام 2002، حينها سجلت البنوك تراجعا حادا في أرباحها بسبب هبوط عملياتها التشغيلية.
في عام 2002، لم تكن ودائع العملاء تتجاوز 3.5 مليارات دولار وفق بيانات سلطة النقد الفلسطينية.
سجلت الودائع في عام 2000 (بداية انتفاضة الأقصى) 3.5 مليارات دولار؛ وتراجعت إلى 3.39 مليارات دولار في 2001، قبل أن تبدأ الارتفاع في 2002 عند 3.4 مليارات دولار، وصولا إلى 4.2 مليارات دولار في 2006.
في ذلك الوقت، وعلى الرغم من تراجع نسبة التسهيلات إلى الودائع (أقل من 30%)، إلا أن القطاع المصرفي نجح في الصمود أمام الاجتياح الإسرائيلي، وظل محافظا على ودائع العملاء.
بلغت نسبة التعثر في عامي 2002 و2003، أقل من 10% على الرغم من الدمار وتعطل آلاف المنشآت التجارية عن العمل، وتراجع وفرة السيولة داخل الأسواق المحلية.
ولم يشهد القطاع المصرفي أية حالات إفلاس أو إعسار، بل خرجت جميعها من الانتفاضة الثانية أكثر قوة من السنوات الأولى بعد توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي.
** أزمة 2006
عام 2006، تأخر انتظام صرف رواتب الموظفين العموميين لأكثر من عام، وتولي حماس الحكومة في فلسطين، وما تبعه من انقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2007.
في تلك الفترة، بلغت ودائع العملاء 4.2 مليارات دولار بنهاية 2006، صعدت إلى 5.1 مليارات دولار في 2007، على الرغم من الأزمة المالية والتوترات الداخلية الفلسطينية.
أما الإقراض المصرفي، فقد بلغ 1.7 مليار دولار، أو ما نسبته 40.5% من الودائع، فيما تبلغ نسبة التعثر قرابة 8.5% بالمتوسط خلال تلك الفترة.
وعلى الرغم من الانقسام، وتراجع المنح الخارجية الحاد، وتوقف صرف رواتب موظفي القطاع العام، إلا أن القطاع المصرفي استمر في النمو وهو ما تظهره بيانات السنوات اللاحقة.
وخلال السنوات اللاحقة نمت ودائع العملاء، على الرغم من حرب إسرائيل على غزة في 2008 وفي عام 2012، وحرب 2014، إلى جانب العمليتين العسكريتين في عامي 2021 و 2022.
وبالتوازي مع نمو الودائع، شهدت التسهيلات الائتمانية ارتفاعا، وسط طلب على الاقتراض مع تعافي الأسواق المحلية من الانتفاضة الثانية، وعودة عجل الاقتصاد للدوران.
وتمكن القطاع المصرفي الفلسطيني، من رفع وتيرة الإقراض إلى الودائع من متوسط 30% بحلول عام 2000 إلى أكثر من 65% حاليا، وهي نسبة تتوافق مع متطلبات بازل.
وعلى الرغم من ارتفاع نسبة القروض إلى الودائع إلى أن نسبة التعثر تراجع من قرابة 10% في أولى سنوات الانتفاضة الثانية، إلى 4.2% حاليا.
** جائحتان: "كورونا" والمقاصة
في عام 2020، تفاجأت الأسواق المالية بما فيها الفلسطينية، من تفشي فيروس كورونا، وما رافقه من غلق إجباري للمرافق العامة، الأمر الذي ترك تأثيرات سلبية على أداء الشركات.
في فلسطين، تراجعت أرباح القطاع المصرفي الفلسطيني في 2020 بنسبة النصف تقريبا إلى نحو 89 مليون دولار، وارتفعت وتيرة الشيكات المرتجعة فوق 12%.
كذلك، ارتفع تعثر القروض لكن ذلك لم يمنع من استمرار البنوك في تقديم الائتمان، بسبب الملاءة المالية المطمئنة والتحفظ "المبالغ به أحيانا" في منح الائتمان.
وتبع أزمة كورونا، أزمة مقاصة بدأت منذ يونيو/حزيران 2020 حتى مطلع ديسمبر/كانون أول لنفس العام، تضمن حجب إسرائيل أموال المقاصة عن الفلسطينيين.
حجب المقاصة، يعني أن الموظفين العموميين تسلموا أنصاف رواتب خلال تلك الفترة، فيما تأخرت مدفوعات الحكومة لصالح الموردين والقطاع الخاص.
في ذلك العام، تحول القطاع المصرفي الفلسطيني إلى الممول الأبرز للحكومة الفلسطينية، للإيفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين والمؤسسات العمومية، دون أن تواجه المصارف أي شح في السيولة.
ومرد ذلك، إلى أن أزمة المقاصة في 2020، هي الأزمة العاشرة التي يعيشها القطاع المصرفي الفلسطيني منذ عام 1994، المرتبطة بالمقاصة.
اليوم، لدى القطاع المصرفي نسبة كفاية رأس مال تتجاوز 16.5%، بينما تتجاوز أصوله 21 مليار دولار، بما يفوق الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني (16 مليار دولار).
كما يبلغ إجمالي قيمة الودائع 16.5 مليار دولار حتى نهاية يوليو/تموز الماضي، بينما التسهيلات الائتمانية 10.6 مليار دولار، ونسبة القروض إلى الودائع متوسط 65%.