في مشهد يُعيد إلى الأذهان واحدة من أكثر اللحظات جنوناً في تاريخ الأسواق العالمية، تجاوزت أسعار الفضة اليوم حاجز 53 دولاراً للأونصة، مسجّلةً أعلى مستوى في تاريخها، لتكسر بذلك الرقم الأسطوري الذي صمد أكثر من أربعة عقود منذ انفجار فقاعة الفضة في عام 1980.
في ذلك العام، كانت الأسواق تعيش ما يُعرف حتى اليوم بـ “مؤامرة الأخوين هانت” — المليارديران الأميركيان نيلسون وبنكر هانت، وريثا إمبراطورية النفط في تكساس.
قرّرا أن يحتكرا سوق الفضة العالمية بشراء كميات ضخمة من المعدن الأبيض، مستخدمين القروض والعقود الآجلة لرفع الأسعار إلى مستويات خيالية.
وخلال أشهر قليلة فقط، قفز سعر الأونصة من نحو 6 دولارات في منتصف عام 1979 إلى 50 دولاراً في يناير 1980، في واحدة من أعنف موجات الصعود المضاربي في تاريخ السلع؛ لكن الحلم سرعان ما تحوّل إلى انهيار كارثي.
ففي 27 مارس 1980، وهو اليوم الذي خُلد في الذاكرة باسم “الخميس الفضي” (Silver Thursday)، انهارت الأسعار بأكثر من 50٪ في يومٍ واحد بعدما فرضت هيئة تداول السلع الأميركية قيوداً على المراكز المدينة (Short Positions)، ومنعت الأخوين هانت من شراء المزيد بالعقود الآجلة.
في الثمانينيات، كانت الفضة أسيرة حفنة من الأثرياء الذين سعوا لاحتكارها. أما اليوم، فهي أسيرة عجزٍ في الإمدادات العالمية ونظام مالي متخوف من فقدان الثقة بالعملات.
وانهارت الإمبراطورية، وغرقت السوق في الفوضى، وأفلست مؤسسات مالية عديدة، لتصبح تلك الواقعة درساً كلاسيكياً في الجشع والمخاطرة.
العودة إلى الحاضر: لندن 2025
اليوم، وبعد 45 عاماً على “الخميس الفضي”، يعود المعدن الأبيض إلى دائرة الضوء، لكن هذه المرة بدوافع مختلفة.
فارتفاع الأسعار فوق 53 دولاراً للأونصة لم يأتِ نتيجة مؤامرة أو مضاربة مفرطة، بل بفعل أزمة سيولة تاريخية في سوق لندن، وطلبٍ عالمي متزايد على الملاذات الآمنة وسط تدهور الثقة بالعملات الورقية، وتزايد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
تحدث المحللون عن “اختناق في المعروض”، إذ تجاوزت معدلات تأجير الفضة في لندن 30٪، ما دفع المتداولين إلى نقل سبائك الفضة جوّاً من نيويورك إلى أوروبا للاستفادة من فروقات الأسعار القياسية بين السوقين، وهي خطوة غير مسبوقة لمعدنٍ طالما عاش في ظل الذهب.
وفي الوقت ذاته، عزّزت قرارات الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة، إلى جانب زيادة الطلب من الهند والصين، موجة صعود واسعة للمعادن الثمينة، جعلت الفضة تتفوّق في أدائها حتى على الذهب، الذي بدوره كسر مستويات قياسية جديدة فوق 4,100 دولار للأونصة.
الفرق الجوهري بين 1980 و2025 هو أن السوق اليوم لا تواجه “مضاربة موجهة”، بل اختلالاً هيكلياً بين الطلب والعرض.
ففي الثمانينيات، كانت الفضة أسيرة حفنة من الأثرياء الذين سعوا لاحتكارها. أما اليوم، فهي أسيرة عجزٍ في الإمدادات العالمية ونظام مالي متخوف من فقدان الثقة بالعملات.
ويقول محللون في غولدمان ساكس إن “سوق الفضة أقل سيولةً من الذهب بنحو تسع مرات، ما يجعل أي نقصٍ في المعروض أو زيادةٍ مفاجئة في الطلب قادرة على تحريك الأسعار بعنف استثنائي.”